الخارجية وتسجيل نسب نمو عالية. وكان المراقبون المذكورون يفسرون الاستقرار الاجتماعي التونسي من جهة ثانية بتحكم النظام في الوضع من خلال أجهزة الدولة القوية والحزب الحاكم المهيمن الذي لم تستطع المعارضة، في حضوره، أن تتجاوز وضعها الهامشي ولا سيما بعد قمع تنظيم حركة النهضة الأصولي في أوائل العقد الماضي.
وبالنظر إلى ما سبقت إليه الإشارة، فقد كان الاندهاش قويا خلال الأسابيع الأخيرة حين تحدثت الأخبار عن احتقان اجتماعي شديد في عدد من مدن ومراكز محافظة قفصة في الجنوب الشرقي للبلاد، وحين أدى هذا الاحتقان إلى صدامات بين المتظاهرين ورجال الأمن استخدمت فيها بعض العناصر من الأولين الزجاجات الحارقة، ورد عليهم الأخيرون بإطلاق النار الذي خلف، في السادس من الشهر الجاري، بمدينة الرديف قتيلا وعشرات الجرحى.
وكانت مدينة الرديف وجاراتها: أم العرائس والمظيلة والمتلوي مسرحاً لاحتجاجات اجتماعية نظمها شبان عاطلون عن العمل وأهاليهم منذ بداية العام الجاري استنكارا للنتائج الضعيفة التي أسفرت عنها مباراة للتوظيف نظمتها الشركة العمومية لاستخراج الفوسفات العاملة في المنطقة التي تعتبر”حوضا فوسفاتياً”.
وعلى الرغم من أن نسبة البطالة في صفوف الشباب، وفي صفوف خريجي المعاهد والجامعات على الخصوص، هي نسبة ارتفعت في تونس خلال السنين الأخيرة بسبب الاتساع الكبير للتكوين المهني والتعليم العالي من جانب، وعدم مجاراة الأنشطة الاقتصادية للعرض المتنامي من الموارد البشرية، فإن الوضع أكثر سوءا وصعوبة في عدد من جهات البلاد التي بقي حظها من التنمية الاقتصادية ضعيفا، وتجاوزت فيها البطالة المعدل العام، وشكل هذا الأمر مصدرا للتذمر والغضب والانفجار.
وفي المغرب الأقصى، كاد المراقبون أن ينسوا تلك الانفجارات الاجتماعية الدامية التي كانت تندلع بمناسبة الاضرابات النقابية. أو بمناسبة التهاب الأسعار وتدهور القوة الشرائية لعامة المواطنين. وأصبحت الأحداث الدامية التي عرفتها بعض المدن الكبرى أو انتشرت في معظم جهات البلاد، وتدخلت قوات الجيش من أجل اخمادها في سنوات 1981 و1984 و،1990 أصبحت مجرد ذكريات حزينة.
وعلى الرغم من بعض التحسن الذي عرفته الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المغربية منذ أواسط العقد الماضي، فإن العامل الأساسي المفسر لتراجع الانفجارات الاجتماعية في المغرب الأقصى منذ سنة 1990 هو عامل ذو طبيعة سياسية يرتبط بالانتعاش النسبي الذي عرفته الحريات السياسية والنقابية، وأصبحت معه السلطات أكثر تساهلا مع الأشكال الاحتجاجية السلمية من اضرابات واعتصامات ومسيرات. وكان التدخل المتسرع والعنيف لتلك السلطات في السابق. يؤدي سريعاً إلى الاحتقان والانفجار. وتكرس العامل السياسي المذكور خلال السنوات الأخيرة بعد مشاركة الأحزاب، التي ظلت في المعارضة خلال العقود الأخيرة من القرن المنصرم، في الحكومة منذ سنة 1998. ومعلوم أن هذه الأحزاب كانت أكثر ارتباطا بالمجتمع وبتنظيماته وجمعياته، وكانت مهيمنة على التنظيم والعمل النقابيين، وكان طبيعيا أن يؤثر وضعها الجديد في الحركة الاجتماعية المغربية ويدفع هذه الحركة إلى الاعتدال في المطالب وفي أشكال الاحتجاج.
وإذا استثنينا ذلك، واستثنينا الوضع الخاص والاستثنائي والملتبس لبعض الاحتجاجات في بعض مدن الصحراء الغربية، فإنه يمكن القول إن المغرب تمكن من التخلص من الانفجارات الاجتماعية المدوية، ويمكن القول كذلك إن انفجار مدينة صفرو القريبة من مدينة فاس في الخريف الماضي، كان استثناء يثبت القاعدة، وأن قلة صبر وحكمة سلطات تلك المدينة أجج الغضب ودفع إلى الانفجار.
ولكن ما حدث في مدينة سيدي افني الواقعة على المحيط الأطلسي على بعد 780 كلم جنوب الرباط.. يفرض التساؤل عما إذا كان المغرب قد تعافى حقا من خطر الهبات والانفجارات الاجتماعية.
في السابع من يونيو/ حزيران الجاري تدخلت قوات الأمن المستدعاة من عاصمة الجهة، من أجل فك حصار ضربه شبان عاطلون على ميناء المدينة منذ الثلاثين من الشهر المنصرم، وأوقفوا حركة الدخول إلى الميناء والخروج منه، وحبسوا داخل هذا الميناء ما يقارب تسعين شاحنة محملة بالأسماك.
وكانت حركة الاحتجاج قد انطلقت على إثر الاستياء والغضب اللذين اعقبا الإعلان عن نتيجة القرعة التي تم اعتمادها لملء سبعة مناصب شغل في بلدية المدينة، واتسعت مطالب المحتجين لتشمل متطلبات تنمية المدينة ومحيطها وتشغيل شبابها، وتوفير الخدمات الاجتماعية لساكنيها، وترقيتها إلى مستوى عمالة (محافظة).
وانتظرت السلطات أكثر من أسبوع لحمل محاصري الميناء على فك الحصار، وحاورت المحاصرين، واستخدمت وساطات من الأعيان والمنتخبين. وفي اليوم التاسع من الحصار تدخلت بالقوة لإعادة الوضع إلى طبيعته، وسقط في هذا التدخل أكثر من أربعين جريحا أكثر من نصفهم من رجال الأمن. ووصل عدد الجرحى إلى هذا العدد بعد فك الحصار واتجاه المحتجين إلى جهات أخرى من المدينة لمواصلة المواجهات مع رجال الأمن واستخدام زجاجات المولوتوف الحارقة.
وإذا كانت القواسم المشتركة بين الالتهابين الاجتماعيين التونسي والمغربي متعددة نخص بالذكر منها اتساع البطالة في صفوف الخريجين، وتفاقم الفوارق بين الجهات، وتجاوز المحتجين لقواعد الاحتجاج القانونية والسلمية، فإن ردود الفعل على الالتهابين كانت مختلفة. وهكذا، تناولت ردود الفعل في المغرب الأدنى ما سبق الصدامات الدامية، وما عرفته هذه الصدامات، وما يتطلبه المستقبل.
ولم تتلعثم قوى المعارضة التونسية التي أصدرت مواقف من أحداث مدينة الرديف. وأكد بعضها أنها “تتفهم تطلع أبناء جهة الحوض المنجمي إلى تحسين أوضاعهم الاجتماعية”، ولكنها أصرت على دعوتهم إلى “التعقل وتغليب المصلحة الوطنية والنأي عن كل أعمال الشغب”.
واعتبرت إحدى قوى المعارضة التونسية. أن “النقد والاحتجاج حقوق مدنية أساسية تحتاج ممارستها إلى الانضباط الكامل لأحكام القانون”، وأضافت “أن المطالب مهما كانت شرعيتها لا تتيح لأصحابها انتهاك القوانين واشاعة الفوضى” .
أما في المغرب الأقصى فإن معظم مواقف الأحزاب والجمعيات الحقوقية والتغطيات والتعليقات الصحافية قفزت عن كل ما حصل قبل تدخل قوات الأمن لفك الحصار عن ميناء سيدي افني. وكان ذلك التدخل هو “بداية التاريخ” بالنسبة إليها، وابتلعت كل ما أصبح يصل إليها من أخبار موثوقة وزائفة من طرف واحد من طرفي الصدام وهو طرف القوات الأمنية الذي قالت عنه انه عاث فسادا في المدينة ضربا ونهبا واغتصابا.
وإذا كانت السلطات في تونس والمغرب مسؤولة عما جرى لأنها لم تقم بالجهد الكافي في الحد من الفوارق الجهوية، وفي التواصل والحوار مع سكان المناطق التي تعرضت إلى التهميش، فإن ذلك لا ينبغي له أن يشكل ذريعة لتهديد الاستقرار الاجتماعي والسياسي. بل ينبغي له أن يشكل مدخلا للاستدراك والتصحيح والتصالح الحقيقي مع السكان المحتجين.
كاتب مغربي